أخبار

الخميس، 20 أغسطس 2015

مقالة عن رائعة ( أرض الخراب لـ T.S. Eliot) بقلم د / طارق رضوان

مــــقـــــالـــــــه عـــــــن رائــــعة 

" أرض الخـــراب" ل T.S. Eliot 

 بقـــلم د / طــــــــارق رضــــــــــــــــوان

 كان إليوت قد رمز في القصيدة إلى جان فردينال ( صديقه) مرة بالملاح الفينيقي الغريق ، ومرة أخرى بفليباس الفينيقي . ففي الجزء الأول من الأرض الخراب يذهب الشاعر إلى قارئة الطالع والمنجمة الشهيرة فتخبره أن في حياته هذا :
The drowned Phoenician Sailor,
Those are pearls that were his eyes. Look
!
الملاح الفينيقي الغريق
أنظر ! : لؤلؤتان كانتا من قبل عينيه
والملاح الفينيقي الغريق هنا ما هو إلا المعادل الموضوعي لجان فردينال ، صديق الشاعر الذي مات غرقا في أبريل في خليج الدردنيل في الحرب العالمية الأولى عام 1915م . والدلالة الرمزية للملاح الفينيقي الغريق تكمن في أن الشاعر يتمنى لو أن فردينال الذي مات غرقا ، يبعث من جديد كما كان يبعث أدونيس إله الخصوبة الفينيقي بعد موته كل عام كضمان لاستمرارية الخصوبة وعودة الربيع . أما قوله : " لؤلؤتان كانتا عينيه " اقتبسه إليوت ( من قول شكسبير بمسرحية ، العاصفة حيث كان ، آريل ، يغنى عزاء للأمير فرديناند بطل المسرحية ، ويخبره بأن أباه لم يمت في العاصفة ، وإنما مر بتحول بحري نفيس ونادر إذ تحولت عيناه إلى لؤلؤتين وعظامه إلى مرجان . وإليوت في استلهامه لأغنية آريل يتمنى لو أن صديقه مر بذلك التحول النفيس ، بل يتمنى بالأحرى لو أن فردينال لم يمت أصلا كما كان الحال مـع فرديناند فـي مسرحية العاصفة الذي يكتشف مؤخرا أن أباه لم يمت ولم يمر بذلك التحول البحري النفيس بل أن الطيف آريل كان يغنى سلوانا له حتى قاده إلى حب ميرندا التي شغف بها حبا .
أما في الجزء الرابع من القصيدة الذي يحمل عنوان : " الموت بالماء " فيرمز فيه الشاعر إلى جان فردينال ، بفيلباس الفينيقي ويقول :
Phlebas the Phoenician, a fortnight dead,
……………………
O you who turn the wheel
And look to the windward,
Consider Phelbas, who was once handsome
And tall as you
.
فليباس الفينيقي ميت
منذ أسبوعين …
وأنت يا من تدير الدفة
وتنظر
صوب الريح
تأمل فليباس ، فقد كان
وسيما وفارعا مثلك !
ويقصد بفليباس الفينيقي إله الخصوبة عند الفينيقيين التي كانت صورته ترمى في البحر كل عام كضمان بتجديد دورة الحياة في الحيوان والنبات وضمان لدوران الفصول وتداولها .
وتظل صورة فردينال تطارد الشاعر في كل تفاصيل القصيدة تقريبا وتلح عليه ولا تبارح مخيلته أبدا . فحتى وهو في لحظات النشوة حينما يكون جالسا بجوار محبوبته يظل شارد الذهن مستغرقا في استحضار ذكرى صديقه ، وعندما تسأله في الجزء الثاني من القصيدة " لعبة شطرنج " فيما يفكر يجيبها بقوله :
I think we are in rats’ alley Where the dead men lost their bones.
أفكر أنا في ممر الجرذان
حيث فقد الموتى عظامهم
وممر الجرذان هنا ، ما هو إلا خليج الدردنيل الذي مات وفقد فيه آلاف الجنود ومن بينهم بالطبع صديق عمره جان فردينال . وفي محاولة يائسة لبعث الحياة في الموتى الذين زرعت الحرب أشلاءهم في كل مكان ، يبصر الشاعر في المقطع الأخير من الجزء الأول من القصيدة المعنون " دفن الموتى " بشخص وسط الجموع المتدفقة ذات صباح شتائي غائم على جسر لندن فينادي صائحا :
You who were with me in the ships at Mylae
That corpse you planted last year in your garden,
Has it begun to sprout? Will it bloom this year?
Or has the sudden frost disturbed its bed?
Oh keep the Dog far hence, that’s friend to men,
Or with his nails he will dig it up again
You” hypocrite lecteur – mon semblable,
Mon frere
يا من كنت معي على السفن
بميلاي
هل أنبتت الجثة التي زرعتها
بحديقتك العام الماضي ؟
أتراها ستزهر هذا العام ؟
أم ترى أن الصقيع المفاجئ
أقض مضجعها
ألا فلتطرد الكلب بعيدا عنها
وإلا نبش بأظافره فأخرج
الجثة من جديد اا
و ميلاي معركة حربية بين روما وقرطاجة في القرن الثالث قبل الميلاد . ولعل إليوت يتخذ منها رمزا لكل الحروب المدمرة التي وقعت في التاريخ ، لا سيما الحرب العالمية الأولى التي عانى الشاعر من ويلاتها الكثير وفقد فيها أعز صديق لديه ألا وهو جان فردينال . أما استفساره لذلك الشخص عن مصير الجثة التي زرعها بحديقته العام الماضي ربما أراد أن يعبر به عن سخريته المريرة بجدوى الحرب التي لم تخلف عبر التاريخ الطويل سوى الدمـار والخراب . كما أن الاستفسار عن مصير الجثة ينطوي على إشارة واضحة إلى طقوس الخصب عند الشعوب القديمة التي يقول إليوت في هوامش الأرض الخراب ، إنه استوحى منها رموزه ورؤاه الشعرية . كما يقول أن السؤال عن مصير الجثة يومئ إلى رغبة دفينة لدى الشاعر في أنه لو كانت تلك الممارسات الأسطورية المتمثلة في دفن صورة إله الخصوبة في الزرع وبعثه كل عام حقيقة وذلك في إشارة إلى إمكانية بعث جثة صديقه الذي مات غرقا .
وهكذا إن تجربة الحرب قد ارتبطت في وجدان إليوت بذكرى صديقه جان فردينال . وإن فردينال هو الخيط الذي ينتظم كل أجزاء القصيدة ويجمع أطرافها التي تبدو أول وهلة مفككة متناثرة . وإن فصل الربيع - أبريل - الذي وصف بالوحشية والقساوة يثير في نفسه ويؤجج نار كل تلك الذكريات الجميلة والمؤلمة في آن معا . إنه يذكره بصديقه الذي مات غرقا في الحرب في خليج الدردنيل في أبريل 1915م ، والذي ارتبطت ذكراه في ذهن الشاعر بصورته وهو وسط حدائق لكسمبورج بباريس في ذلك الغروب المثير ملوحا بغصن من زهـور الليلاك . تلك الصورة الرومانسية التي حفرت في وجدانه عميقا وصارت رمزا وتجسيدا حيا لتلك الذكريات الخصبة والأيام الجميلة التي قضياها قبيل الحرب بفرنسا وألمانيا وإيطاليا .
ومن هنا كان مصدر اختلافنا مع البروفسير الراحل المقيم عبد الله الطيب الذي كان يرى أن إليوت قد أخذ عنوان القصيدة وعنوان الجزء الأول منها ومطلعها من معلقة لبيد بن ربيعة العامرى بينما نرى نحن كما سبق البيان ، إن إليوت كان يصدر في صياغة القصيدة عن تجربة شعورية حقه عاناها عن المستوى الواقع والشعر .

 بقـــلم د / طــــــــارق رضــــــــــــــــوان


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق